الغموض الإستراتيجي أفضل من “البريكس”!
كتبتُ يوم 2 أغسطس من العام الماضي في هذه المساحة تحت عنوان “لا بديل عن الغموض الإستراتيجي”، أنه علينا أن نتبنى هذا المبدأ “البوصوفي” (نسبة للعقيد عبد الحفيظ بوصوف، رحمه الله)، عقيدة في سياستنا الخارجية في ظل التقلبات الدولية الراهنة، أي أن مصلحتنا من هنا إلى غاية 2027، على الأقل، هي في عدم الإسراع بالإفصاح الرسمي عن خيارنا الإستراتيجي، تماما مثلما هو موقف الولايات المتحدة الأمريكية عندما تتبنى عقيدة الغموض الإستراتيجي تجاه “تايوان”، رغم أن تَوجُّهها العام هي العمل على فصل “تايوان” عن الصين، أو ما يتبناه الكيان الصهيوني من مسألة امتلاك السلاح النووي، والعالم أجمع يعرف أنه دولة نووية…
قلت أننا بحاجة إلى تبني هذه العقيدة الإستراتيجية وأضيف اليوم بعض الأسباب التي مازالت تدعوني لذلك، ومن بينها:
ـ أولا: أَثبَتَتْ تجربتنا التاريخية أن تَبنِّينا خيارا غير الغموض الإستراتيجي كان وَبالا علينا (الاشتراكية غداة الاستقلال) و(الليبرالية غداة الانقلاب على الاشتراكية)، ويبدو أن الإشارات اليوم دالة أن توجهنا المكشوف نحو “البريكس”، لو تم قَبوله، سيجلب لنا متاعب جيوإستراتيجية جَمَّة، لذلك، فإننا فُزنا اليوم بفرصة ذهبية لا تُعَوَّض لمراجعة سياستنا الخارجية والعودة إلى إعادة صوغ عقيدتنا الجيوإستراتيجية بما يتناسب وطبيعة الدولة الجزائرية بمختلف مكوناتها وتاريخ علاقاتها المتنوعة بين الشرق والغرب.
ـ ثانيا: بَيَّنَت الحرب في أوكرانيا خطورة الميل كل الميل إلى تكتل واحد بالنسبة للدولة التي لديها “تماس ناري” مع الغرب أو الشرق. والجزائر في تماسها وقربها من الاتحاد الأوروبي والقواعد العسكرية للحلف الأطلسي في إسبانيا خاصة، منطلق أسطولها الحربي نحو الشرق الأوسط وإفريقيا، تُشبه أوكرانيا في قربها من روسيا وعمقها العسكري، وقد حدث ما حدث لأوكرانيا لأنها مالت كل الميل إلى الحلف الأطلسي أو دُفعت إلى ذلك دفعا على حساب جارتها روسيا، الأمر الذي أدى بالأخيرة للتدخل دفاعا عن أمنها القومي. ذات الشيء قد يتكرر مع الجزائر إذا ما شعرت أوروبا بأن صواريخ “البريكس” أصبحت مطلة عليها من غرب الجزائر أو من المكسيك أو من كوبا. هذه البلدان الثلاث ينبغي أن تكون حذره في ميلانها الإستراتيجي، ولا يوجد أفضل من الغموض الإستراتيجي بالنسبة لها.
ـ ثالثا: باستثناء الصين وروسيا القادرتان على مواجهة الغرب اقتصاديا وعسكريا، باقي دول “بريكس” إما هي حليفة له (الهند جزء من تحالف كواد مع الولايات المتحدة) أو لا تُشكِّل خطرا مباشرا عليه مثل الإمارات والأرجنتين وإثيوبيا ومصر، أو هي حاليا في صراع مكشوف معه، إيران، وليس لديها ما تخسر، أو مازالت تربطها علاقات متوازنة معه (السعودية)، وقد تنسحب من “البريكس” في أي وقت، أما الجزائر، فباعتبارها أقرب مصدر للطاقة بالنسبة لأوروبا عبر إيطاليا وإسبانيا، يخشى الغرب استخدامها هذا السلاح ضده وهي جزء من تكتل رسمي لديه أجندته الخاصة، لذلك، فترحيبه اليوم واضح بعدم الانضمام، وسيكون أكثر بإعلان الغموض الإستراتيجي والاستمرار في علاقات التعاون الثنائي بعيدا عن الانتماء إلى كتلة يراها الغرب معادية.
رابعا: الغموض الإستراتيجي يسمح لنا بالتفرغ للسياسة الداخلية وبناء اقتصاد وطني دون تَأثّر بالصراعات بين الشرق أو الغرب، أي أن نتمكّن من تعزيز البنية التحتية لدينا، وبناء قاعدة صناعية وتطوير قطاع الخدمات بعيدا عن ضغط الانتماء. موقفنا التفاوضي سيكون قويا مع مجموعة الـ7G أو مع “البريكس”، وسيسمح لنا هذا إذا امتلكنا رؤية وطنية واضحة وكانت لدينا الإرادة السياسية الصادقة في بناء الوطن، بمضاعفة وتيرة الخروج من الركود الحالي بوتيرة متسارعة.
وعليه، فإن المطلوب اليوم، ليس الأسف على عدم دخول “البريكس”، وليس الدعوة إلى أن نكون جزءا من الغرب كما يريد بعض التابعين له، إنما تبني خيار الغموض الإستراتيجي الذي سيُمكِّننا من مجال واسع من المناورة ويُوسِّع مساحة الأمل أمامنا في أن نُصبح أحسن مما نحن عليه.. عندها بدل أن نجري خلف “البريكس” أو الغرب، سيطلب ودنا الاثنان معا..